![]() |
من أشعار العميان
مصطفى قاسم عباس إن من أعظم نعم الله عز وجل التي امتنّ بها علينا نعمةَ البصر، وهل يستوي الأعمى والبصير؟ والدنيا - كما هو معلوم - دارُ ابتلاء وامتحان، قد يبتلي الله فيها الإنسانَ بفقد البصر، ولكنه - جل وعلا - يعوّضه الجنة، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ، ثُمَّ صَبَرَ عَوَّضْتُهُ الْجَنَّةَ، يُرِيدُ عَيْنَيْهِ[1]. ومع ذلك تبقى البصيرةُ هي المقياسَ والأساس, فكثيرٌ من الناس لهم أعينٌ لا يبصرون بها، فيكونون عُمياً في هذه الدنيا.. ﴿ وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ﴾[2] وتراه معرضاً عن ذكر الله، وربُّ العزة يقول:﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾[3]. وكثير من الناس من حُرم نعمة البصر ونورَ العين، لكنه ما حُرم نورَ القلب، وذكاءَ العقل، وفصاحةَ اللسان، فابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما بعد ما ذهب بصرهُ يقولُ: إنْ يأخُذِ اللَّهُ من عينيَّ نُورَهُما http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache ففِي لِسانِي وقلبي مِنْهُما نورُ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache قلبي ذَكيٌّ وعَقلي غَيْرُ ذي دَخلٍ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache وفي فمِي صارمٌ كالسَّيفِ مأثورُ[4]http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache وفي المعنى نفسه، بل بتوافقٍ في الشطر الأول من البيت الأول، قال عز الدين أحمد بن عبد الدائم: إن يُذهبِ اللهُ من عَينيَّ نورَهما http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache فإنّ قلبي بصيرٌ ما بهِ ضَررُ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache أرى بقلبِيَ دُنيايَ وَآخرَتِي http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache وَالقلبُ يُدرِكُ ما لاَ يُدرِكُ البَصرُ[5]http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache وأحدُ الخطباء المعاصرين كان ضريراً، وسئل مرة: هل تجلس أمام التلفاز؟ فأجاب: إن الله تبارك وتعالى أكرمني بفقد البصر حتى لا أرى ما يغضبه. ثم أنشأ يقول: رأيتُ العَمَى أَجراً وَذُخراً وَعِصمةً http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache وإنِّي إلى تِلكَ الثَّلاثِ فَقِيرُ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache يُعيِّرُني الأَعداءُ وَالعَيبُ فِيهمُ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache وَلَيسَ بِعَيبٍ أنْ يُقالَ: ضَرِيرُ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache إذا أَبصَرَ المَرءُ المُروءَةَ وَالوَفَا http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache فإنَّ عَمَى العَينَينِ لَيسَ يَضِيرُ[6]http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache والشاعر الضريرُ نصر علي سعيد يرى أن كثيراً من المبصرين يمشون في درب الحياة بلا هدف ولا هدى، ويرى كثيراً من العميان متوهجين في بصيرتهم، ويملؤون الدنيا عطاءً، وها هو يبحث عن قلبٍ لا حرابَ فيه في زمن الذئاب البشرية يقول: كمْ من ضَريرٍ مُبصرٍ مُتوهِّجٍ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache يُعطِي ويُعطي، والمَدَى وهَّابُ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache وَترى أُلوفَ المُبصِرينَ بِلا هُدًى http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache لكأَنَّما فَوقَ العُيونِ حِجابُ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache وأَسيرُ في دَرب الحَياةِ لَعلَّني http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache أحظَى بِقلْبٍ ليسَ فيهِ حِرَابُ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache فَالناسُ تَنهشُ بَعضَها بِشراهةٍ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache لكَأنَّهم - يَا وَيلَتاهُ – ذِئابُ![7]http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache ويأتينا الشاعرُ علي بن عبد الغني الحصريُّ بصورةٍ بديعة عندما جعل سوادَ العين يزيد سواد القلب، ليصبحا مجتمعين على الفهم والفطنة: وقالُوا: قدْ عَميتَ، فقُلت: كلاَّ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache وإنِّي اليومَ أَبصَرُ مِن بَصِيرِ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache سَوادُ العَينِ زادَ سَوادَ قَلبِي http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache ليَجتَمِعا على فَهمِ الأُمورِ[8]http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache وقد يولد الإنسانُ أعمى، وقد يفقد بصرَه فيما بعد، فمن الحالة الأولى الشاعر بشار بن برد، حيث وُلد وهو أعمى بل حتى وهو جنين كما يقول، وأخذ يعلل ذلك بالذكاء، وأن ضياءَ العين عندما غاض أتى مرادفاً ورافداً للقلب، قال: عَمِيتُ جَنِيناً والذَّكاءُ مِنَ العَمَى http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache فجِئتُ عجيبَ الظَنِّ، للعِلمِ مَوئلا http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache وَغاضَ ضياءُ العَينِ للعِلمِ رافداً http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache لقَلبٍ إِذا ما ضيَّع النَّاسُ حَصَّلا http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache وشِعرٍ كَنَوْرِ الرَّوْضِ لاءَمْتُ بَيْنَهُ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache بقَولٍ إِذا ما أحزَنَ الشِّعرُ أَسْهلا[9]http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache ومن الحالة الثانية الشاعرُ صالح بنُ عبد القدوس، الذي فقد عينه فرثاها بأروع كلمات الرثاء، وأودع قصيدته التاليةَ روائع الحكم: عزاءكِ أيُّها العَينُ السَّكُوبُ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache ودَمعَكِ، إنَّها نُوَبٌ تَنُوبُ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache وكُنتِ كَرِيمَتي وسِراجَ وَجهِي http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache وكانتْ لي بكِ الدُّنيا تَطِيبُ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache فإنْ أكُ قد ثَكِلتُكِ في حَياتي http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache وفارقَني بكِ الإلفُ الحَبِيبُ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache فَكلُّ قَرِينةٍ لا بُدَّ يَوماً http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache سَيشْعبُ إلفَها عَنها شعُوبُ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache على الدُّنيا السَّلامُ، فما لشَيخٍ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache ضريرِ العَينِ في الدُّنيَا نَصِيبُ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache يمُوتُ المَرءُ وَهوَ يُعَدُّ حيًّا http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache ويُخلِفُ ظنَّهُ الأَملُ الكَذُوبُ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache يُمنِّيني الطَّبيبُ شِفاءَ عَينِي http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache ومَا غَيرُ الإلهِ لهَا طَبيبُ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache إذا ما ماتَ بعضُكَ فَابكِ بَعضاً http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache فإنَّ البعضَ مِن بَعضٍ قَرِيبُ[10]http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache وإننا عندما نتأمل في شعر العميان نرى أن بعضهم أتى بصورٍ يعجز عنها المبصرون، مما يجعلنا في غاية التعجب! ونقول: كيف لو كان هذا الأعمى مبصراً؟!! وفارس هذا المضمار رهينُ المحبسين الشاعر أبو العلاء المعريُّ، الذي كلما تحدث أحدٌ عن الشعر والعمى يخطر على البال، والذي عناه المتنبي - كما يقول - في بيته المشهور: أنا الَّذي نَظرَ الأَعمَى إلى أَدَبِي http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache وأَسمَعتْ كَلِماتي مَن بهِ صَمَمُ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache وحسبُك من وصفه قصيدتُه التي يصف فيها الليل وكأنها عروس زنجيَّة، ومنها قوله: لَيلَتي هذِهِ عَرُوسٌ مِنَ الزّن http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache جِ علَيهَا قَلائدٌ مِن جُمانِ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache وَسُهَيلٌ كَوجنَةِ الحبِّ في اللَّو http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache نِ وقلبُ المُحبِّ في الخَفَقانِ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache ثمَّ شابَ الدُّجَى وخَافَ مِنَ الهَجْ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache رِ فغطَّى المَشِيبَ بالزَّعفَرانِ[11]http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache وكثيرةٌ هي الصور الفريدة البديعة التي أتى بها الشعراءُ العميان، والتي يعجز عنها المبصرون... ونطرح سؤالاً هنا: هل الحب والعشق مقصور على المبصرين؟ والجواب: طبعاً لا، لأن العشق لا يميز بين أعمى وبصير، وما أروع قولَ بشار بن برد في هذا المجال: يا قَوْمِ، أُذْنِي لِبَعْضِ الحيِّ عَاشِقَةٌ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache والأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ العَيْنِ أَحْيَانا http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache قَالُوا: بِمَنْ لاَ تَرَى تَهْذِي؟ فَقُلتُ لَهُمْ: http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache الأُذْنُ كاَلْعَيْنِ تُوفي القَلبَ مَا كانَا[12]http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache والإنسان يحب عادة فتاة حوراءَ عيناءَ، نجلاءَ كحلاءَ، فهل هناك من الشعراء أحب فتاة عمياءَ؟ ويأتي الجواب أيضاً: أن الحب لا يعرف أعمى ولا بصيراً، فهذا الشاعر أحب امرأة عمياء، وأتى بتعليل لطيفٍ وهو أن محبوبته العمياءَ لا ترى الشيبَ عندما يلوح في فَوديه, يقول ابنُ قزل يتغزل في عمياء: قالوا: تَعشَّقتَها عَميَاءَ! قُلتُ لهُمْ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache ما شَانَها ذَاكَ في عَينِي وَلا قَدَحا http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache بَلْ زادَ وَجدِيَ فِيها أنَّها أَبداً http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache لا تعرِفُ الشَّيبَ في فَودِي إذَا وَضَحا http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache إنْ يَجرَحِ السَّيفُ مَسلُولاً فلاَ عَجَبٌ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache وَإنَّما اعْجَبْ لِسَيفٍ مُغْمَدٍ جَرَحا![13]http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache ونرى أن بعض الشعراء العميان حالتُهُم تُدمع العين، وتُحزن الفؤاد، فابن التعاويذي، يرى نفسه مقبوراً في منزله، ليلُه ونهارُه سواءٌ، وحالته تبكي العذول، وتُدمع العيون، يقول: فَها أنَا كَالمَقبُورِ في كسْرِ مَنزِلي http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache سَواءٌ صَبَاحِي عِندَهُ وَمَسائي http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache يَرِقُّ وَيبكِي حَاسِدِي لِيَ رَحمَةً http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache وَبُعداً لَهَا مِن رِقَّةٍ وَبُكاءِ[14]http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache .. وهكذا كنا في جولة سريعة مع من فقد بصره، ولا يزال نور شعره متوهّجا مدى الأيام, بل لا يزيده مرورُ الأيام إلا صقلاً وجمالاً وبهاءً. وما علينا في الختام إلا أن نحمد الله على نعمه وآلائه، وعلى نعمة البصر العظيمة، ولكن - كما قلنا - البصرُ ليس كلَّ شيء.. فالأهمُّ البصيرة. ولا عجبَ عندما نرى في الدنيا بصيراً يسقط في حفرة، وأعمى يمشي بلا اصطدام، وما أروع ما قاله الشاعرُ إبراهيم علي بديوي: قُل لِلبَصِيرِ - وكَانَ يَحذَرُ حُفرَةً http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache فَهَوى بِها -: مَن ذا الَّذِي أَهوَاكَا؟ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache بَلْ سائلِ الأَعمَى خَطَا بَينَ الزِّحا http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache مِ بِلا اصْطِدامٍ: مَن يَقُود خُطَاكَا؟ http://www.loghaty.com/vb3/imgcache/1034.imgcache فاللّهُمَّ متعْنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منّا، وارزقنا نعمة البصيرة المنيرة، والهديَ المستقيم، إنك سميع مجيب. ـــــــــــــــــ [1] حديث صحيح. انظر شرح السنة للبغوي: ج 3 ص 21. [2] سورة الإسراء، الآية 72. [3] سورة طه، الآية 124. [4] كتاب الحيوان/ الجاحظ، باب شعر في الخصب والجدب: ج 1 ص 216. [5] نكث الهميان في نكت العميان/ الصفدي: ص 24 - 25. [6] آخر لقاء مع (20) عالماً ومفكراً إسلاميًّا/ محمد خير رمضان يوسف، ط 1, 1426هـ، دار ابن حزم، ص 51. [7] جريدة الفداء: العدد 11957 بتاريخ 15/10/2002م. [8] نكث الهميان في نكت العميان: ص:24. [9] نور القبس/ المرزباني، ج 1 ص 54. [10] المستطرف في كل فن مستظرف/ شهاب الدين محمد بن أحمد أبي الفتح الأبشيهي، ط 3 - دار صادر ص 669 - 670. وانظر: ربيع الأبرار للزمخشري، ج 1 ص 413. [11] نصرة الثائر على المثل السائر/ الصفدي: ج 1 ص 44. [12] خزانة الأدب/ عبد القادر البغدادي: ج 1 ص 385. [13] نكث الهميان في نكت العميان: ص 25. [14] نكث الهميان في نكت العميان: ص 25. |
الساعة الآن 05:34 PM بتوقيت مسقط |
Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
:: جميع الحقوق محفوظة لمنتديات لغاتى التعليمية ::